عدد المساهمات : 815 نقاط : 2639 تاريخ التسجيل : 05/08/2009
موضوع: ۞۩ معلومات علميه وطبيه وادبيه ۩۞ / سر الصنعة 10/28/2011, 11:48
سر الصنعة
اذا تجولت يوماً في أحد الأسواق القديمة كسوق خان الخليلي مثلاً وأعجبتك قطعة نحاسية فاخرة أبدع من قام بتشكيلها، ونال الفضول منك وأردت أن تسأل صانعها كيف وصل لهذه الحرفية والمهارة في الصناعة.. فالمعتاد أن تسمع منه رداً عفوياً متكرراً وهو كالتالي..” دا أنا وارث المهنة دي عن أبويا -الله يرحمه- وأبويا وارثها عن أبوه …” وهكذا إلى أن تصل سلسلة الـ(عنعنه) للجد الـ…. عشر.
وان كنت من الزبائن المُلحين في السؤال فستنال هذا الرد الواضح الصريح ..” دا سر الصنعه يا حضرت ” وعلى هذا الأساس فأسرار المهن لا تذاع هكذا بهذه البساطه، فغير أنها (لقمة العيش) التي يعيش عليها فهي التي جعلته ذائع الصيت من بين منافسيه، بل تجد الرجل منهم حريص حرصاً شديداً على تعليم أولاده -على وجه الخصوص- الصنعة نفسها.
فالقصد سيدي أن “سر المهنة ” هو من جعل مثلاً من صناعة الماكينات الألمانية بهذا الكم من الانتشار والسُمعة حول العالم، فوصل ذلك إلى شهرة المنتخب الألماني بـ ” الماكينات الألمانية ” التي لا تهدأ مهما طالت مدة العمل، وهو ما جعل الأجهزة اليابانية تحتل مكانة خاصة بين مستخدميها من بين أطياف البشر المختلفة على مستوى العالم كله. فالكثير منا لا يعرف عن الحضارة اليابانية إلا أكلة ” السوشي ” ولكن نعرف الكثير عن الأجهزه اليابانية الصُنع ونحفظ أسماء شركاتها العملاقة عن ظهر قلب، ويتضح ذلك أيضاً في كرة القدم حيث يُطلق الناس على منتخب اليابان اسم ” الكمبيوتر الياباني ” حيث لا يحتاجون إلا البرمجة على خطة اللعب فقط واترك لهم تنفيذ الأمر!!
فالشعوب والمجتمعات تُعرف بما تجيد عمله و صناعته أو بالأحرى بـ”سر الصنعة” الذي تمتلكه.
وعلى النقيض فهي أيضاً من تجعل بعض الناس يُهين الصناعات الصينية بأي منتج رديء تقع عليه عيناه حتى قبل أن يعرف مصدر صناعته، رغم أن الصين -نفسها- هي من أبدعت في صناعات عديدة كصناعة الخزف والحرير مثلا، وإذا بحثت في الأمر تجد أن “سر الصنعة” وتقدم الشعوب والمجتمعات متأصل منذ القدم، فتجد مثلاً تفضيل العرب للسيوف اليمانية عن غيرها من السيوف وتجد مدحهم لها منتشر بكثرة في قصائدهم ومُعلقاتهم.
ولك أن تعلم سيدي أن “سر الصنعة” لا يقتصر على الأفراد فحسب.. بل تجد الأمر يتصاعد أكثر فأكثر إلى الشركات الكبرى التي تعتبر أسرارها أشبه بالأسرار العسكريه المحظور تداولها حتى بين عامة موظفيها، فلا عجب أن تجد خبراً يتصدر وسائل الإعلام العالمية المختلفة أن شركة كذا ألقت القبض على فلان بتهمة (( التجسس )) لصالح كذا أو كذا من الشركات المنافسة، وقد حدث ذلك بالفعل في واقعة التجسس الصناعي التي تعرضت لها شركة رينو الفرنسية العملاقة في صناعة السيارات حول القضية التي تتعلق بالتجسس على الأبحاث الخاصة بمشروع إنتاج سيارتها الكهربائية بالتعاون مع شركة نيسان اليابانية.
وتجد الظنون والشكوك تحوم حول الصين فتقوم الصين بنفي ذلك رسمياً على لسان حكومتها ولا عجب أن تقوم الحكومة الفرنسية بوصف هذه القضية بأنها “حرب اقتصادية”، فالأمر يتعلق بمليارات الدولارات وأنها ستتدخل إذا طلبت شركة رينو منها ذلك فتتواصل التحقيقات ويصل الأمر للاشتباه في مسئولين كبار بالشركه -نفسها – ثم يتم تبرئة ساحتهم وتعويضهم بمبالغ مالية خيالية، ولا تزال القضية تبحث عن جاني وسط تلك المعارك الشرسة بين الشركات الصناعيه وبعضها البعض. فالامر لا يتعلق فقط بمليارات الدولارات واليوروهات والريالات بل ب”سرا لصنعه” كانت ستملكه شركه فرنسيه وتغزو به دول العالم وبالتالي تزيد الثقه في الاقتصاد الفرنسي كله
ويتضح بالتأكيد أن “سر الصنعة” ليس مصدراً للكثير والكثير من المال فحسب بل تجده أيضاً مصدراً للتفاخر والتباهي كما تفعل الكثير من البلدان كسويسرا مثلاً، والتي تتفاخر بجودة صناعتها للساعات السويسرية وانتشارها حول العالم عن دونها:
وكذلك تجد الشعب الفرنسي يتباهي بصناعة العطور الباريسية المميزة وتميزهم بها عن غيرهم من الشعوب والبلدان.
ولم يتوقف “سر الصنعة” في مجال التباهي والتفاخر وجمع الأموال الطائلة فحسب بل وصل إلى تغيير نتائج حروب عالمية كالنزاع بين الولايات المتحدة واليابان في الحرب العالمية الثانية، فلولا امتلاك الولايات المتحدة لسر القنبلة النووية وتدمير مدينتي “هيروشما وناجازاكي” بتلك القنابل لنالت هزيمة ساحقة من اليابان والتي تم استسلامها -أي اليابان- بعد استخدام تلك القنابل.
لذا فالشيء المتقن عمله تجد الشعوب تسعد بكونها من مستخدميه بل تُخلده بقصدٍ أو بغير قصد في تُراثها بعيداً عن العصبية القبلية أو أي عنصرية كما فعل العرب بالسيوف اليمانية، وكذلك هو السر في إنهاء صراعات وقلب نتائجها رأساً على عقب وستبقى دول بعينها ذائعٌ صيتها في حرفة معينة إلى أن يتم صناعة الأفضل والأجود، وستظل المنافسة أبدية بلا نهاية سواء بين الدول أو الشركات رغم تعدد الإتفاقيات والمعاهدات فيما بينهم البعض في التجارة والصناعة والملكية الفكرية وهكذا.. وسيبقى التميز والإبداع كامناً في عبارة “سر الصنعة” الذي حير الملايين ولا شك أنه سيبقى -على قدر المستطاع- سراً بين من يملكه سواء كان شخصاًً أو شركة أو دولة مهما اختلف الزمان والمكان.
ونتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي تتغير فيه شعارات منتخبات بلادنا العربية إلى شيء مميز صنعته بأيديها وتميزت به عن غيرها من الشعوب، وبالتأكيد ليس هذا انتقاصاً من تباهينا بالصقور وخيولنا العربية الأصيلة فكما كان أسلافنا متميزين بما أنجزوا وصنعوا نريد نحن أن نسير على دربهم في التميز، فهو ولا شك يأتي بالإتقان و”حب الصنعة” والوصول بها إلى حاله من الولع الذي يخلق الإبداع.
وأحب كثيراً أن أختم مقالي بعباره من الفيلم الكارتوني “كونج فو باندا”:
أنه لا توجد خلطة سرية للإبداع.. فقط عليك أن تُتقن ما تعمل!!