[ حكم من يجمع بين المعروف والمنكر ]
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً ، أو يتركوهما جميعاً : لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ، بل ينظر : فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ماهو دونه من المنكر .
ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول وزوال فعل الحسنات ، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله .
و إن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما . فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة .
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً .
وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ، ويحمد محمودها ويذم مذمومها ، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه ، أو فوات معروف أرجح منه .
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق ، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصياً ، فترك الأمر الواجب معصية ، وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية . وهذا باب واسع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أُبي و أمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان ، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزم إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه : حمى له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه.
و أصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر ، وإرادته لهذا ، وكراهته لهذا : موافقة لحب الله وبغضه ، و إرادته وكراهته الشرعيين . وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته ، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقد قال: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن: من الآية16) .
فأما حب القلب وبغضه و إرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة ، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان . و أما فعل البدن فهو بحسب قدرته ، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته : فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل ، كما قد بيناه في غير هذا الموضع ، فإن من الناس من يكون حبه وبغضه و إرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها ، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله ، وهذا من نوع الهوى ، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (القصص: من الآية50)