[بعض أغلاط الناس في مفهوم الأمر بالمعروف ]
وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية ؛ كما قال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – في خطبته : إنكم تقرؤون هذه الآية : ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) . و إنكم تضعونها في غير موضعها ، و إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منها )).
والفريق الثاني : من يريد أن يأمر و ينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقاً من غير فقه وحلم وصبر و نظر فيما يصلح من ذلك ومالا يصلح ، وما يقدر عليه ومالا يقد ، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً وديناً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمراً لا يدان لك به ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله )) فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده ، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء ؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة ؛ وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي و الجهاد على ذلك ، وكان فساده أعظم من صلاحه ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة ، وقال: (( أدوا إليهم حقوقهم ، وسلوا الله حقوقكم )). وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع .
ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء – كالمعتزلة – فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة : (( التوحيد )) الذي هو سلب الصفات ، (( والعدل )) الذي هو التكذيب بالقدر ، و (( المنزلة بين المنزلتين )) و (( إنفاذ الوعيد )) و (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )) الذي منه قتال الأئمة . وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع
وجماع ذلك داخل في (( القاعدة العامة )): فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد ، وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له ، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به ، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، و إلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام .